المرأة
أخر الأخبار

بعد ١٠٠ عام على “تحرير المرأة”..

الواقع: مكانها تراوح

جيلان العيسى

قبل 116 عام تقريباً نشر المفكر المصري الراحل قاسم أمين كتاب “تحرير المرأة”، الذي أثار آنذاك الكثير من الجدل في أوساط المثقفين والعامة، وذلك لتناوله معاناة المرأة المصرية من القهر والظلم، نتيجة الموروثات الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وعلى الرغم من الطابع الإسلامي لخطاب أمين الذي حاول في كتابه إثبات أن الدين لا يتعارض مع إصلاح واقع المرأة المصرية، والعربية بطبيعة الحال، لتعزيز دورها في النهضة، غير أن “سيف الموروث” بقي مسلطاً على رقاب النساء، لا في زمنه فحسب، بل حتى وقتنا هذا.

نادى، أمين، بتعليم المرأة ومعاملتها معاملة الند للند ومشاركتها في الحقوق وفي الواجبات بالعدل والمساواة مع الرجل، حتى أنه تطرق إلى مسألة شكل الحجاب الذي ترتديه النساء المسلمات معتبراً أن الحجاب السائد ليس من الإسلام، مطالباً بالتخفيف منه. هذه الآراء جعلت أمين هدفاً مباشراً لألسنة الأصوليين، فوصفوه بـ”الزنديق والكافر”، رغم أنه لم يطالب بنزع الحجاب بشكل كامل، إنما رأى أن التشدد في ارتدائه يخالف الشريعة الإسلامية.

بعد 75 عاماُ من كتاب قاسم أمين، أصدر المفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي كتاب “مقدمات لدراسة المجتمع العربي”، الذي حاول خلاله تفكيك بنية الفرد والمجتمع في البلدان العربية ونقد العملية التربوية، في الأسرة والمدرسة والمجتمع، بما في ذلك عملية التأثر والتأثير، وفي الفصل الذي استعرض فيه واقع المرأة العربية، يقول شرابي “من الواضح أن مجرد إرسال البنات إلى المدرسة وإزالة الحجاب عن وجوههن ومنحهن بعض الحقوق المدنية والمهنية لا يحقق تحرير المرأة، فالتحرير لا يتحقق بمجرد اقتباس العادات والملابس والمدارس الغربية، فهذه ليست إلا مظاهر خارجية كثيراً ما تُخفي العلاقات التقليدية، وبالتالي تمنع تغييرها”.

في كتابه المنشور عام 1975، يُقسّم شرابي الاضطهاد في المجتمع العربي 3 أنواع، اضطهاد الفقير، واضطهاد الطفل، واضطهاد المرأة. وحول النوع الأخيرة يقول إن “من المفجع أن يولد الإنسان أنثى في مجتمعنا”، ويضيف “لا أعرف مجتمعاً في العالم، حتى المجتمعات البدائية، وضع الأنثى فيه مثل وضعها في المجتمع العربي. ومهما حاولنا إخفاء هذا الواقع أو تبريره فالحقيقة بارزة أمامنا وهي تصفعنا كل يوم”.

كم يبدو كلام قاسم أمين وهشام شرابي مناسباً تماماً لوصف واقعنا اليوم، فرغم التغييرات التي حصلت في المجتمعات، لكن لا يزال الحال شبيهاً بما مضى، حتى القوانين التي تم تعديلها أو استبدالها لإنصاف المرأة كإنسان له احترامه وكيانه المستقل، لم تستطع أن تُغيّر سلطة العادات والتقاليد التي لا تزال جاثمة بثقلها على النساء، فغالباً ما تبدو القوانين مرنة لتناسب مقاس المجتمع لا حقوق النساء.

الأمثلة كثيرة التي يمكن الاستشهاد بها. لكم أن تتخيلوا مثلاً أن العالم العربي هو المكان الوحيد في العالم الذي تُعفي قوانين بعض بلدانه المغتصب إذا ما تزوج من ضحيته، أهذا عقاب أم مكافئة؟! ألغت العديد من البلدان بالفعل هذه اللطخة المشينة من قانونها في محاولة لتحسين أوضاع المرأة وصون كرامتها، إلا أن هذا لا يكفي، كما يؤكد الواقع، فالقانون لا يصبح قانوناً إذا لم يكن سارياً وقابلاً للتطبيق.

من المستحيل أن يتغير المجتمع العربي ما دامت المرأة العربية في وضعها الراهن، وذلك وفقاً لشرابي، لأنها هي التي تصنع الإنسان العربي. وطالما أن المرأة العربية لم تتغير بعد، فالإنسان العربي غير قابل للتغيير. وعندما قال نابليون إن اليد الي تهز السرير هي اليد التي تهز العالم، قصد بذلك أن المرأة لا الرجل هي قاعدة المجتمع وركيزته.

يؤكد شرابي أن المجتمعات العربية إذا كانت جادة في التحديث الحضاري، عليها قبل كل شيء أن تُعيد إلى نصف المجتمع إنسانيته الكاملة. يضيف: كيف لنا أن نجابه التحديات التي تهددنا وأن نبني مجتمعاً جديداً في حين أن نصفنا مشلول؟ فعندما يكون النصف مشلولاً يصبح الكل مشلولاً أيضاً. إن نقطة انطلاقنا إذا، أن الإنسان العربي هو الرجل والمرأة على حد سواء.

على أن هذا التمييز الذي تعيشه المرأة في المجتمعات العربية له انعكاسات لافتة، وفق دراسة أجراها شرابي عن تركيب العائلة ودور الأم في تكوين شخصية الطفل، إذ أشارت النتائج الأولية حول الفوارق في تربية الصبيان والبنات، أن الفارق الأساسي هو في أن الأولوية والاهتمام الزائد الذي يُعطى للصبي على حساب البنت، يُتيح للأخيرة شيئاً من الحرية يجعلها قادرة على تطوير قواها الذاتية في استقلال وفي سرعة لا تتوفر لدى الصبي.

طريقة التربية التقليدية وتحميل الفتيات أعباء كبيرة منذ الطفولة مقابل الاهتمام الزائد بالذكور، تجعل شخصية الأنثى تتكون باكراً، بحيث يصبح في إمكانها القيام بواجبات وأعباء لا يستطيع الذكر القيام بها في مثل سنّها.

يستشهد شرابي بتجربته في التدريس الجامعي خلال 20 عاماً، لافتاً إلى أن الفتاة العربية عندما تتاح لها الفرص التي تتاح لزميلها الشاب تستطيع أن تتفوق عليه في كثير من الأحيان، ويتابع قائلاً “إنني أميل إلى الاعتقاد أن ذلك يعود إلى الصفات والمزايا التي اكتسبتها في الصغر. وقد لاحظت أن طلابي العرب كثيراً ما كانوا يطلبون مساعدتي في ترتيب أمورهم أو في التوسط لهم أو في أشكال من المساعدات، فيظهرون بذلك الكثير من الاتكالية في سلوكهم، أما الطالبات العربيات فكنّ يرفضن المساعدة إلا في الاحالات الملحة، مُظهرات بذلك اعتماداً على النفس واستقلالية ذاتية تثير الإعجاب، وأستطيع القول إن الطالبات كنّ دائماً الأقوى شكيمة والأقدر على حل المشكلات ومواجهة الصعاب”.

على أنّ وصف واقع المرأة العربية دون وجود مقياس معياري يُبقي هذه المسألة مفتوحة للاجتهادات، ولهذا قد تُفيد النظرة إلى تجارب أخرى في وضع مقارنات تُفضي إلى تفكيك هذه القضية بشكل أكثر منهجية، وفي هذا الصدد نستذكر ما أورده المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ في كتابه “الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة”، حيث يقول “لا يمكن للمرء أن يكتشف مأساة المرأة العربية، المتمثلة في اضطهادها وتنوعها وشعوريتها المضاعفة واستلاب شخصيتها، إلا عندما يرى المرأة الغربية التي تحررت من الأسر الذكوري وأسر التقليد”.

يضيف الحافظ: “الواقع أن الشرقي الذي يتحدث إلى امرأة غربية لا يمكن إلا أن يفاجئ أنها تتحدث بدون تحرج، بلا غصّة أو خنوع أو شعور بالنقص إزاء الرجل، بلا شك في نيات الرجل الاغتصابية المقنعة، بلا دلع حريمي أو شعورية خالية من أي تأثير عقلاني، وقد لمست عياناً خلال دراستي في باريس كيف تقف المرأة إلى جانب الرجل لا وراءه”.

الكثير من الكتب والدراسات والمؤلفات النقدية التي تناولت المجتمع العربي في القرن الماضي لا تزال صالحة إلى يومنا هذا، فرغم التغيير الذي فرضته جملة من التحولات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية العالمية، إلا أن العالم العربي لا يزال يواجه المشكلات والتحديات ذاتها، ولعل أبرزها وأكثرها إلحاحاً قضية المرأة، فالتغيير في مجتمعنا لا يمكن أن يتم دون تغيير جذري العلاقة بالمرأة والنظرة إليها، وهذا يعني شيئاً واحداً، كما يقول هشام شرابي: “تحرير المرأة”.

زر الذهاب إلى الأعلى